فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وحينما شرع الحق سبحانه التوبة أوضح: أنه إذا انفعل مريد لعمل شيء فوجه طاقته لعمل شيء مخالف، قد تكون شهوته أو شٍرّته قد غلبت عليه، فتوجه في ساعة ضعف إلى عمل شرّ؛ لذلك شرعت التوبة لماذا؟ لأننا لو أخرجنا هذا الإنسان من حظيرة المطيعين بمجرد فعل أول عمل شرّ لصارت كل انفعالاته من بعد ذلك شرورًا، وهذا هو الذي نسميه فاقدًا، فيشرع الحق: إن فعلت ذنبًا فلا تيأس، فنحن سنسامحك ونتوب عليك.
فساعة شرع الله التوبة رحم المجتمع من شراسة أول عاصٍ، فلو لم تأت هذه التوبة لكثرت المعاصي بعد أول معصية. ومقابل قول الحق: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} وتنبيهه أن الذنوب التي فعلت قبل ذلك يطهرك منها بالتوبة، مقابل ذلك الذين يتبعون الشهوات ويريدون منك أن تأتي بذنوب جديدة؛ لذلك يقول الحق سبحانه: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ} والميل هو ملطق عمل الذنوب. إنك بذلك تميل عن الحق؛ لأن الميل هو انحراف عن جادة مرسومة لحكيم، والجادة هي الطريق المستقيم.
هذه الجادة من الذي صنعها؟ إنه الحكيم.. فإذا مال الإنسان مرة فربنا يعدله على الجادة مرّة ثانية، ويقول له: أنا تبت عليك، إنه سبحانه يعمل ذلك كي يحمي العالم من شرّه، لكن الذين يتبعون الشهوات لا يحبون لكم فقط أن تميلوا لمرّة واحدة، بل يريدون لكم ميلًا موصوفًا بأنه ميل عظيم. لماذا؟.. لأن الإنسان بطبيعته- كما قلنا سابقًا- إن كان يكذب فإنه يحترم الصادق، وإن كان خائنًا فهو يحترم الأمين، بدليل أنه إن كان خائنًا وعنده شيء يخاف عليه فهو يختار واحدًا أمينًا ليضع هذا الشيء عنده.
إذن فالأمانة والصدق والوفاء وكل هذه القيم أمور معترف بها بالفطرة، فساعة يوجد إنسان لم يقو على حمل نفسه على جادة اليم، ووجد هذا الإنسان واحدًا آخر قدر على أن يحمل نفسه على جادة القيم فهو يصاب بالضيق الشديد، وما الذي يشفيه ويريحه؟ إنه لا يقدر أن يصوِّب عمله وسلوكه ويقوّم من اعوجاج نفسه؛ لذلك يحاول أن يجعل صاحب السلوك القويم منحرفًا مثله، وإن كانت الصداقة تربط بين اثنين وانحراف أحدهما فالمنحرف يستخذي أمام نفسه بانحرافه، ويحاول أن يشد صديقه إلى الانحراف كي لا يكون مكسور العين أمامه. وهو لا يريده منحرفًا مثله فقط بل يريده أشد انحرافًا؛ ليكون هو متميزًا عليه. إذن فالقيم معترف بها أيضًا حتى لدى المنحرفين، واذكروا جيدًا أننا نقرأ في سورة يوسف هذا القول الحكيم: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 26].
هم في السجن مع يوسف، لكن لكلٍ سبب في أنَّهم سجنوه، فسبب هؤلاء الذين سألوا يوسف هو أنهم أجرموا، لكن سبب وجود يوسف في السجن أنه بريء والبريء كل فكره في الله، أما الذين انحرفوا ودخلوا معه السجن عندما ينظرون إليه يجدونه على حالة حسنة، بدليل أن أمرًا جذبهم وهمّهم في ذاتهم بأن رأوا رؤيا، فذهبوا لمن يعرفون أنه إنسان طيب برغم وجوده معهم في السجن، فقد أعجبوا به بدليل أنهم قالوا له: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}. ومن يقول: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} لابد أن تكون عنده قدرة على تمييز القيم، ثم قاسوا فعل يوسف عليها فوجدوها حسنة، وإلا فكيف يُعرف؟. إذن فالقيم معروفة عندهم، فلما جاء أمر يهمهم في ذاتهم ذهبوا إلى يوسف.
ومثال ذلك: هناك لص لا يمل من السرقة ولا يكف عنها، وبعد ذلك جاء له أمر يستدعيه للسفر إلى مكان غير مأمون، فاللص في هذه الحالة يبحث عن إنسان أمين ليقضي الليل عنده ولا يذهب للص مثله. إذن فالقيم هي القيم، وعندما قال أصحاب يوسف في السجن: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، استغل سيدنا يوسف هذه المسألة ووجدهم واثقين فيه فلم يقل لهم عن حكايتهم ابتداء ويؤول لهم الرؤيا، بل استغل حاجتهم إليه وعرض عليهم الإيمان قال: {ياصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39].
لقد نقلهم من حكايتها لحكايته، فما داما يريدان استغلال إحسانه فلماذا لا يستغل حاجتهما له ويعظهما ويبشرهما بدين الله؟ وكأنه يقول لهما: أنتما جئتما إلي لأنكما تقولان إنني من المحسنين. وأنتما لم تريا كل ما عندي بل إن الله أعطاني الكثير من فيضه وفضله، ويقول الحق على لسان يوسف: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 37] أي أن يوسف الصديق عنده الكثير من العلم، ويقر لهما بفضل الله عليه: فليس هذا العلم من عندي: {ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37].
وبعد ذلك يدعوهما لعبادة الإله الواحد كي يستنجدا به بدلًا من الآلهة المتعددة التي يتخذانها معبودا لهما وهي لا تضر ولا تنفع.
{أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39].
إذن فالقيم واحدة، والله يريد أن يتوب عليكم، ولكن الذين يتبعون الشهوات يريدون أن تميلوا ميلًا عظيمًا، حتى لا تكونوا مميزين عليهم تميزًا يحقّرهم أمام أنفسهم، فهم يريدون أن تكونوا في الانحراف أكثر منهم، لأنهم يريدون أن يكونوا متميزين في الخير أيضًا ويقولون لأنفسهم: إن كنا شريرين فهناك أناس شرٌّ منا. اهـ.

.تفسير الآية رقم (28):

قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الميل متعبًا لمرتكبه أخبرهم أن علة بيانه للهداية وإرادته التوبة الرفق بهم فقال: {يريد الله} أي وهو الذي له الجلال والجمال وجميع العظمة والكمال {أن يخفف عنكم} أي يفعل في هذا البيان وهذه الأحكام فعل من يريد ذلك، فيضع عنكم الآصار التي كانت على من كان قبلكم الحاملة على الميل، ويرخص لكم في بعض الأشياء كنكاح الأمة- على ما تقدم، ودل على علة ذلك بالواو العاطفة؛ لأنكم خلقتم ضعفاء يشق عليكم الثقل {وخلق الإنسان} أي الذي أنتم بعضه {ضعيفًا} مبناه الحاجة، فهو لا يصبر عن النكاح ولا غيره من الشهوات، ولا يقوى على فعل شيء إلا بتأييد منه سبحانه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

في التخفيف قولان:
الأول: المراد منه إباحة نكاح الأمة عند الضرورة وهو قول مجاهد ومقاتل، والباقون قالوا: هذا عام في كل أحكام الشرع، وفي جميع ما يسره لنا وسهله علينا، إحسانا منه إلينا، ولم يثقل التكليف علينا كما ثقل على بني إسرائيل، ونظيره قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والاغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] وقوله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185] وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله عليه الصلاة والسلام: «جئتكم بالحنيفية السهلة السمحة». اهـ.
قال الفخر:
قال القاضي: هذا يدل على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى، إذ لو كان كذلك فالكافر يخلق فيه الكفر، ثم يقول له: لا تكفر، فهذا أعظم وجوه التثقيل، ولا يخلق فيه الإيمان، ولا قدرة للعبد على خلق الايمان.
ثم يقول له: آمن، وهذا أعظم وجوه التثقيل.
قال: ويدل أيضا على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع، لأنه أعظم وجوه التثقيل.
والجواب: أنه معارض بالعلم والداعي، وأكثر ما ذكرناه.
ثم قال: {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفًا} والمعنى أنه تعالى لضعف الإنسان خفف تكليفه ولم يثقل والأقرب أنه يحمل الضعف في هذا الموضع لا على ضعف الخلقة، بل يحمل على كثرة الدواعي إلى اتباع الشهوة واللذة، فيصير ذلك كالوجه في أن يضعف عن احتمال خلافه.
وإنما قلنا: إن هذا الوجه أولى، لأن الضعف في الخلقة والقوة لو قوى الله داعيته إلى الطاعة كان في حكم القوي والقوي في الخلقة والآلة إذا كان ضعيف الدواعي إلى الطاعة صار في حكم الضعيف، فالتأثير في هذا الباب لضعف الداعية وقوتها، لا لضعف البدن وقوته، هذا كله كلام القاضي، وهو كلام حسن، ولكنه يهدم أصله، وذلك لما سلم أن المؤثر في وجود الفعل وعدمه، قوة الداعية وضعفها فلو تأمل لعلم أن قوة الداعية وضعفها لابد له من سبب، فإن كان ذلك لداعية أخرى من العبد لزم التسلسل، وإن كان الكل من الله، فذاك هو الحق الذي لا محيد عنه، وبطل القول بالاعتزال بالكلية والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ} أي في التكليف في أمر النساء والنكاح بإباحة نكاح الإماء قاله طاوس ومجاهد وقيل: يخفف في التكليف على العموم فإنه تعالى خفف عن هذه الأمة ما لم يخفف عن غيرها من الأمم الماضية، وقيل: يخفف بقبول التوبة والتوفيق لها، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
{وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفًا} أي في أمر النساء لا يصبر عنهن قاله طاوس وفي الخبر: لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريمًا ويغلبهن لئيم فأحب أن أكون كريمًا مغلوبًا ولا أحب أن أكون لئيمًا غالبًا وقيل: يستميله هواه وشهوته ويستشيطه خوفه وحزنه، وقيل: عاجز عن مخالفة الهوى وتحمل مشاق الطاعة، وقيل: ضعيف الرأي لا يدرك الأسرار والحكم إلا بنور إلهي.
وعن الحسن رضي الله تعالى عنه أن المراد ضعيف الخلقة يؤلمه أدنى حادث نزل به، ولا يخفى ضعف مساعدة المقام لهما فإن الجملة اعتراض تذييلي مسوق لتقرير ما قبله من التخفيف بالرخصة في نكاح الإماء، وليس لضعف الرأي ولا لضعف البنية مدخل في ذلك، وكونه إشارة إلى تجهيل المجوس في قياسهم على أول القولين ليس بشيء، ونصب {ضعيفًا} على الحال وقيل: على التمييز، وقيل: على نزع الخافض أي من ضعيف وأريد به الطين أو النطفة، وكلاهما كما ترى، وقرأ ابن عباس {وَخُلِقَ الإنسان} على البناء للفاعل والضمير لله عز وجل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

أعقب الاعتذار الذي تقدّم بقوله: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم} [النساء: 26] بالتذكير بأنّ الله لا يزال مراعيًا رفقه بهذه الأمّة وإرادته بها اليسر دون العسر، إشارة إلى أنّ هذا الدين بيّن حفظ المصالح ودرء المفاسد، في أيسر كيفية وأرفقها، فربما ألغت الشريعة بعض المفاسد إذا كان في الحمل على تركها مشقّة أو تعطيل مصلحة، كما ألغت مفاسد نكاح الإماء نظرًا للمشقّة على غير ذي الطول.
والآيات الدالّة على هذا المعنى بلغت مبلغ القطع كقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78] وقوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] وقوله: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 157]، وفي الحديث الصحيح: «إنّ هذا الدين يسر ولن يشادّ هذا الدين أحد إلاّ غلبه» وكذلك كان يأمر أصحابه الذين يرسلهم إلى بثّ الدين؛ فقال لمعاذ وأبي موسى: «يسِّرّا ولا تُعَسِّرا» وقال: «إنما بعثتم مبشرين لا منفرين».
وقال لمعاذ لمّا شكا بعض المصلّين خلفه من تطويله «أفَتَّان أنْتَ».
فكان التيسير من أصول الشريعة الإسلامية، وعنه تفّرعت الرخص بنوعيها.
وقوله: {وخلق الإنسان ضعيفًا} تذييل وتوجيه للتخفيف، وإظهار لمزية هذا الدين وأنّه أليق الأديان بالناس في كلّ زمان ومَكان، ولذلك فما مضى من الأديان كان مراعى فيه حال دون حال، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا} الآية في سورة الأنفال (66).
وقد فسّر بعضهم الضعف هنا بأنّه الضعف من جهة النساء.
قال طاووس ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء وليس مراده حصر معنى الآية فيه، ولكنّه ممّا رُوعي في الآية لا محالة، لأنّ من الأحكام المتقدّمة ما هو ترخيص في النكاح. اهـ.